
رواية شيخ سعد
(الجزء الثاني)

اثناء الحديث طرقت الباب وكانت هناك فتاة لايتجاوز عمرها الثمان سنوات تحمل ثلاث اوان من الالمنيوم رصت فو بعضها مليئة بالطعام ومجموعة من اقراص الخبز عدة رؤوس من البصل وباقة من الخضرة في طبق من الخوص اخذها ابراهيم من يدها وسرعان ما اختفت بعد ان تخلصت من حملها الثقيل لتعدو عائدة من حيث اتت فما كان من ابراهيم الا ان وضعها على منضدة خشبية قديمة بالكاد تقف على قوائمها تجاور حوض تعلوه حنفية تقطر بانتظام اسندت تلك المنضدة المتهالكة الى الجدار بمحاذاة النافذة التي لم يبقى من زجاجها شيء وتراكم بدل ذلك الورق المقوى لسد فتحاتها وفي وسط الغرفة قنينة غاز ركب عليها طباخ بعين واحدة حيث شرع كوركيس بتسخين الطعام و تشغيل المروحة السقفية في الغرفة الاخرى التي جهزت بثلاث اسرة مع ثلاث طاولات خشبية وثلاثة دواليب حديدية بجانب كل دولاب شمعة علق عليها بعض الملابس
- هذه هي غرفة النوم والمعيشة وهذا هو المطبخ ما رايك بحياة العزاب
قالها ابراهيم وهو يشير بيديه الى الغرفتين عند المدخل
- البيت دون امرأة لا يطاق
غير ان صلاح عاد الى السؤال مرة اخرى
- ما مقدار الايجار
اجاب ابراهيم
- خمسة دنانير
ومن هو المؤجر
- زاهد صاحب المطعم والد تلك الفتاة الصغيرة
ولكن البيت لعائلة ميرزة وتلك هجرت الى ايران
- ليس هناك صعوبة في الامر استولى على البيت بناء على طلب تقدم به بحكم انتمائه الى الحزب و باوامر من ذلك الحزب حصل عليه بالرغم من قرابته لميرزة
- وما الذي جعله يبقى بالرغم من قرابته لميرزة ويستولي على بيته
- اتخاذه من الوطنية ملاذا كتبرير لنذالته اسوة بسويلم عامل الخدمة في المستوصف
- هذا الشاحب الذي يجلس عند باب الطبيب
- انه كائن بلا اخلاق تم اطلاقه على العالم وزود بسم يفتك بلا رحمة لسعته حبر على ورق بالرغم من انتمائه القومي لضحايا التهجير مثل زاهد
- حقا ان العبد اسوا من السيد عندما يتولى امر اقرانه انه يستطيع ان يغير ما يؤمن به بما يلائم رغبات سيده ويجتهد باضافة جرعة من النذالة
- هنالك ثلاث اسرة الثالث لمن ؟
- انه لكاكا مقديد استاذ الانكليزية صاحبك المشاكس والذي كان يخشاه طلبة الاتحاد في كلية الاداب
-ماذا لااصدق ما تقول ما الذي جاء بمقديد الى هنا ظننت انه في خانقين كما سمعت من جبار لم التقي به منذ زيارتي له بعد تخرجه حيث رحبت بنا انا وعزيز والدته التي لاتعرف من العربية شيئا اوووه من يصدق مضى اكثر من عام
- حاول ان يعمل هنا غير انه لم يفلح في ذلك
- الذي اعرفه عن كاكا مقديد لا يطيق مثل هذه الاماكن
- بالضبط بقي .على مظظ استنزف كل اجازاته وبدأ يتغيب بين فترة واخرى خلال الشهرين المنصرمين وكأنه عازم على حسم الامر بترك الدوام الى غير عودة
مضت ثلاثة ايام على نهاية اجازته قد يباشر غدا او بعد غد بأمكانك استخدام سريره لحين مغادرتي تاركا لك سريري
- وهذه الغرفة لمن
حيث اشار صلاح الى الغرفة التي تجاور غرفتهم عندها ضحك كوركيس وردد
- انها ليوسف ..... الصديق الحميم لابو اكرم بامكانك معرفته لو نظرت الى ما في غرفته و ما يوجد تحت السلم
- تقصد قناني المستكي الفارغة اين هو وماذا يعمل
- يتمتع باجازته الشهرية التي تنتهي نهاية هذا الاسبوع ياتي في اليوم الذي ساغادر فيه يعمل مسؤول حسابات في مديرية الناحية
-وهل يستطيع ادارة حسابات الناحية مع كل هذه القناني التي يفرغها في جوفه وتستنزف عمره
- لايختلف بشىء عن صاحبه ابو اكرم ينجز عمله باتقان لايمكن ان يظاهيه فيه احد ويقضي مع صاحبه ليالي يتناولا المستكي تحت البرحية اذا ما بدأا بقنينة يقضيان عليها ويتحرشا بالاخرى دون ان يرف لهم حاجب
بعد تناولهم الغذاء بدا كوركيس برش الباحة و الغرفة باكثر من عشر جرادل ومع دوران المروحة عبق الجو برائحة طابوق الفرشي وسرت برودة جعلت الخدر يتسلل اليه فاستلقى على السرير بالكاد يفتح جفنه وتاهت كلمات كوركيس وابراهيم ولم يعد يفهم ما يدور من حديث واستغرق في نوم عميق بعد يوم حافل ومرت اكثر من اربع ساعات عندها استيقظ حيث وجد نفسه وسط عتمة الغرفة بعد ان اختفى ضياء النهار الذي كان ينفذ من فتحات النافذة وقد ساد الهدوء نهض من السرير اوقد المصباح خرج من الغرفة تجول في الدار لااثر لكوركيس وابراهيم اراد الخروج غير انه ما زال يجهل التجوال في دروب هذه البلدة لذا اثر ان يغسل وجهه و يشرب قدحا من الشاي ويستغرق في قراءة رواية وينتظر قدومهما مضت اكثر من ساعة وسمع ضحكة كوركيس وصوت ابراهيم في الشارع ثم انتبه اليهما وهم يفتحو الباب
- بالله عليكم اين كنتما
- ذهبنا الى مطعم زاهد تناولنا العشاء وجلبنا لك عشائك ولم نشأ ان نوقضك وانت غارق في نوم عميق هه ما رايك بتبريد كوركيس
- انه اكثر من رائع كيف خطرت على بالك هذه الفكرة
- الامر في غاية البساطة البيت تظلله البرحية والجدران سميكة و من الفرشي وكذلك الارضية والسقف عال كما ترى والسطح مكسو باللبن يكفي رش الارضية مع حركة المروحة لتتحول سموم تموز الى نسمات باردة مثل هذا البناء هو الشكل الملائم لاجواءنا هكذا عاش اباءنا منذ مئات السنين كلما كانت الجدران سميكة يظللها سعف النخيل لا يتاثر البيت بلهيب اب وتموز
- على ما اذكر لم يكن اي بيت في بغداد القديمة يخلو من نخلة اوشجرة سدر
- هكذا هو الامر منذ الاف السنين اجدادنا فهمو طبيعة البيئة التي يعيشونها
انها صحراء بنهرين و قلة في الامطار وصيف طويل بلهيب لايرحم
- من دجن هذه الشجرة عبقري بحق لانه خلق ظروف ملائمة للحياة ايقن الاخرون انها مقاومة عنيدة لا ينال منها صيفنا الحارق وتنشر ظلال للبشر والنبات والحيوان لا تحتاج الى رعاية وسقي لاكثر من عامين وبعد ذلك تعتمد على نفسها حيث توغل جذورها عميقا في التربة.... كما ان كل ما فيها يعطي فائدة لا يمكن لغيرها من الشجر ان ينافسها فهي كالام بالنسبة للاشجار الصغيرة تظللها وتحميها من لهيب الشمس بريشها الاخضر اليانع وجذوعها القوية المنتصبة وتصنع الاسرة والاثاث ..... نشوي الخبز من سعفها اليابس وياكل الانسان والحيوان من تمرها ويشرب يوسف وابو اكرم من رحيقها كما تسقف البيوت من جذوعها انها حضارة النخيل الخيال الخصب لكل من فكر بالفردوس لا تختفي الا بعيب في سلوكنا
ويقال ان الجنائن المعلقة لم تصبح معلقة الا بجهد وذكاء العاملين الذين صنعو جبل هائل بتكديس الاف الاطنان من التربة الخصبة واحاطوه بالاف من اشجار النخيل التي وفرت ظلال حجبت اكثر من ثلثي اشعة الشمس في الايام القائظة ووفرت نسبة تزيد على النصف من الرطوبة وقللت تبخرها مما ساعد على زراعة كثيفة لنباتات استوائية نادرة لمختلف اشجار الفاكهة والازهار....... .مع بقاء مياه السقي لاطول فترة من خلال ظلالها الوارفة
وعلاوة على زراعة النخيل شقت الانهر الصغيرة لتخترق المدن كما هو الحال في بغداد زمن الرشيد وبنيت البيوت باسقف عالية من القبب اوطابق علوي مع سرداب وازقة ضيقة انهم تعاملو مع الطبيعة المتطرفة باسلوب عبقري
- انك عاشق لتلك الشجرة
- انها عماتنا كما ورد في كتابكم لذا يجب محاسبة من يقطعها شرعا وقانونا صدقني لو زرعناها في كل مكان لما بقي فقير في البلد واستغنينا عن قيء الشيطان الذي بدا يلوث الاجواء والعقول وهاهي براميله المصدرة تجمع حولها الاف من شذاد الافاق الطامعين بمزايا ومكاسب سلطة يستهترون بها لانها تدر عليهم ملايين الدولارات دون عناء والثروة التي تأتي دون عناء تعطي جرعة من السفاهة و النذالة يطغى بها صاحبها و يستهتر ليستخدمها في التنكيل واذلال الشرفاء من ابناء جلدته ويحض الجهلة والغوغاءعلى التكاثر كالارانب ليزج بابنائهم في فتوحات يحلم بها مقابل هبات من يحجب ثلاث وجبات ليعطيك نصف وجبة تفرح بها وتمجده
- بالمناسبة كم الثمن
- لاعليك انت اليوم ضيفنا وحق الضيف ثلاثة ايام
بعد تناول العشاء فتح صلاح حقيبته ليخرج ملابسه ومجموعة من الكتب صفها الى الطاولة جانب سريره وبينما هو مستغرق في ذلك سمع كوركيس
- مازلت تحمل معك كتبك الا تكف عن ذلك انا متاكد بان المساحة التي تشغلها هذه الكتب في حقيبتك هي اكبر من المساحة التي تشغلها ملابسك ... هنا بامكانك ان تكف عن ذلك المكتبة العامة .ليست بعيدن عنا وهي مليئة بمئات العناوين من الكتب التي ترغب في قراءتها ومن يشرف عليها عصام صاحب يوسف لا ينفك عن زيارته بين حين واخر بامكانك التعرف عليه فهو طيب بكل ما تعنيه الكلمة
-جيد يمكنه ان يخفف عني حمل ما هو متشابه
-بالمناسبة ما اخبار طوني اقاربك صاحب مكتبة كورونيت
مررت به اكثر من مرة لابحث عن بقية الاعداد لمجلة المعرفة الانكليزية وفهم العلوم والعالم العملي وفي كل مرة اجد المكتبة موصدة الابواب
- باع كل ما فيها جملة وتقدر باكثر من مائة الف كتاب ومجلة اجنبية ثم باع المكان لاثنين احدهم ينوي تحويله لمطعم و مشروبات والاخر لبيع الملابس الداخلية الرجالية وهاجر منذ اكثر من شهر
صاح صلاح غير مصدق
- ماذ تقول لابد انك تمزح لم يبلغني بذلك
- لم يشأ أن يخبر احد من معارفه كما تعرف تم منع الاستيراد الخاص واقتصر الامر على المكتبة الوطنية التي تجاور سينما النصر
- اعلم ذلك انها بداية الحجر على العقول وابلغني بان هناك مراقبة امنية على المكتبة التي تجاور سينما السندباد
اقصد مكتبة الحزب الشيوعي
- عليك بالحذر ولا تقترب منها يقال ان هنالك مخبرين نصبو كاميرات في العمارة التي تواجهها عبر شارع السعدون لالتقاط صور الداخلين والخارجين منها
- على اية حال لم اعد اذهب الى هناك لدي ذخيرة جيدة من طبعات دار التقدم في موسكو تتجاوز المائة كتاب حصلت عليها وباسعار لا تقارن بمضمونها وجودة طباعتها ولم يعد هناك ما يستحق المجازفة
نظر كوركيس الى ابراهيم واسترسل في حديثه
- من ايام المتوسطة المجلات التي يحملها اكثر من الدفاتر والكتب المدرسية غرفته مليئة بالاف منها
-وما الفائدة التي تجنيها من هذه الاكوام المكدسة والتي تزدحم بها غرفتك
قالها ابراهيم وهو يتهيأ للصلاة بعد ان مسح جبهته حاملا السجادة يبحث عن التربة عند حافة الشباك
- سمع صلاح يردد
- هي حواري الصامت بها..... احيا غنيا دون ان اموت فقيرا وهي الفأس التي تشذب شجرة العقل ليتزين وتقطع ما علق من اغصان لافائدة منها ...... كما انها ارخص سياحة بامكانك ان تتجول في صفحاتها وبين سطورها وتتعرف على اماكن وامم عبر تاريخ زاخر بالاحداث تجعلك محايدا تعرف ما حدث في الماضي والحاضر بموضوعية..... وتزودك بذخيرة لا بأس بها لمعرفة المستقبل
جاوزت الساعة الحادية عشر وفيما كان صلاح مستغرقا في قراءة الرواية التي بين يديه وابراهيم ينصت الى الراديو من خلال السماعة المحشورة في اذنه مستلقيا واضعا يديه خلف راسه وكوركيس بعد ان سقي الورود جلس في الباحة صامتا مستغرقا في تاملاته غارقا بافكاره غير انه نهض فجاة ودخل الغرفة طاويا الفراش والاغطية مردد
- صلاح بامكانك حمل فراشك والصعود الى السطح حيث الهواء العليل
- لاباس اصعد بعدقليل
ثم تابع وانت ابراهيم
لم ينتبه في بداية الامر ثم نظر الى كوركيس وازاح السماعة عن اذنه وردد
-لااريد الصعود الى السطح انام في الغرفة
ابتسم كوركيس وردد بصوت لم يسمعه ابراهيم بعد ان اعاد السماعة الى اذنه
- لاشك انها زائرة الفجر
استمر ابراهيم يستمع الى المذياع عبرالسماعة دون أن ينتبه لما لمح له كوركيس بينما سمع صلاح وهو مستغرق في مطالعة الكتاب الذي كان بين يديه ما نطق به كوركيس دون ان يفهم قصده .
وبعد اكثر من نصف ساعة صعد صلاح حاملا فراشه وعند السطح وجد كوركيس مستغرقا في نوم عميق وقد علا شخيره وعن الجانب الاخر فرش ما يحمله واستلقى يتامل الاف النجوم التمعت في سماء صافية غاب عنها القمر ونسمات لطيفة وباردة تهب من النهر الذي لايبعد اكثر من مائة متر تداعب وريقات السعف التي تدلت على السوروخرج بعضها من بين قضبان الحديد لاتبعد عن وجهه حيث هو مستلقي فاهتزت وكانها تهمس في اذنه حكايات قبل النوم واطمانت نفسه الى تلك الصحبة وزال غم الغربة لاول ليلة يقضيها بعيدا عن الاهل في بيت الاحزان هذا الذي عمدته ماساة ميرزة وعائلته وصوت من بعيد بالكاد يسمعه لام كلثوم يصدح برباعيات الخيام
النزع الاخير من الليل وقبل الفجر حيث الظلمة تلفظ انفاسها الاخيرة وبالكاد ضوء الفانوس يزاحم الظلمة في باحة البيت استيقظ ليفرغ ما في مثانته ونزل اربع درجات ووقف ينصت الى همس يصدر من الحمام وقف كالصنم وسكنت كل حركة في جسده سوى دقات قلبه ينتظر ليرى ما الذي يجري كان في مكان لايمكن لمن في الاسفل ان يراه حيث حجب بسقف من الواح خشبية صفت لتحجب الحمام عن النازل من السطح وماهي الا ثوان حتى خرجت امرأة قصيرة بدينة اجتازت الثلاثين عارية استحمت للتو غطى شعرها المبلول نصف ظهرها بصدرعامر كبير وخلفية اكبر وكانها صنم لالهة بدائية دبت فيه الحياة واسرعت لتختفي عند الممر دون ان يغطيها شيء وللتو تذكر ماسمع من كوركيس عن زائرة الفجر تحركت قدماه بحذر متراجعا عائدا من حيث اتى يصعد درجات السلم الواحدة تلو الاخرى دون ان يستدير ليستلقي في فراشه متحملا ما هو فيه دون ان يصدر اي صوت . ينصت الى ما يجري تحت وبعد ربع ساعة سمع الباب الرئيسي يغلق وراى من خلف فتحة السور وسط العتمة شبح لامراة تبتعد حاملة على راسها طبق اصطفت عليه قدور ليبتلعها اخر ما تبقى من الظلام في النزع الاخير من ليل حالك السواد في بلدة ضوء الفانوس في مثل هذه الاوقات يخشى ان يدلع لسانه من فتحة الباب لانه اشد وقعا على صاحبه من الوباء عندها ايقن بان اللقاء السري انتهى تنفس الصعدا واسرع للتخلص مما يضايقه