top of page

(رواية الشيخ سعد)

-الفصل الاول-

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

على طريق اسفلتي يمتد كافعى جبارة  تهادت حافلة قديمة دك النجف تشق طريقها جنوبا نحو العمارة   بمحرك ما انفك يزأرطوال الطريق لتدور العجلات حاملة في جوفها الاربعين راكب  وهي تشق  طريقها

في تلك الظهيرة القائظة  حيث فارقت الكوت منذ نصف ساعة وبعد ان اجتازت جسر  الجباب  لاح من البعد وسط الارض القفر شواخص لبنيان  انجز من الطابوق والاسمنت المسلح دون ان يراعي في اضافة مسحة جمالية لواجهته  تباطأت سرعتها  واتجهت نحو ذلك البناء لتجد لها مكانا امامه الى جانب مجموعة من الحافلات وسيارات الصالون تركها ركابها لتناول وجبة الغذاء كان صلاح جالسا في المقعد الثالث خلف  السائق طول قامته ارغمه على حشر نفسه في مقعد ضيق تكاد ركبتيه تلامس صدره  جلس خلفه كهل رث الثياب ظهر فيما بعد واثناء ساعات السفر انه يمتهن التسول عابر للمحافظات تعود  ان يندس في اية حافلة دون دفع ثمن الرحلة لائذا بالصمت ومتى ما كشف امره بدأ بالتوسل والشكوى طالبا العون مزود بجرعة مضادة  للتأنيب والتقريع جعلته لم يأبه للاحتقار الذي لعلع به لسان مساعد سائق المركبة السليط الذي سرعان ما كف عنه بعد ان دفع احد الركاب اجرته وفعلا دفع صلاح  ذلك الشاب القادم من بغداد مع كتاب تعيين كمدرس لمادة الاحياء في ثانوية شيخ سعد ......كان يجلس امامه    عندها  مد عنقه متوددا شاكرا اياه على كرمه غير ان رائحة  جسده كانت لاتطاق  لشخص لم يستحم منذ زمن ....... مما ارغم الذي يجلس  بجانبه ان يبحث عن مقعد للخلاص من تلك الرائحة  . تنفس صلاح الصعداء عندما سمع الصوت الاجش للسكن وبلهجة جنوبية ضجرة اكسبتها العادة نوع من اللامبالات لكائن بشري لاتميزه عن اهل الكهوف سوى ما يرتديه من قميص وبنطال ارتداهما بحكم المهنة غير عابىء بما غزاهما من شحوم ودهون التصق بهما الغبار ينبأ عن وصولهم لناحية شيخ سعد تلك الناحية التي تتوسط المسافة بين الكوت والعمارة والمختفية عن الانظار بعيدا عن الطريق وخلف النهر وكأنها اختصرت وجودها بذلك المطعم البائس المرمى بأهمال على جانب ذلك الطريق الذي امتدت على جانبيه ولمئات الكيلومترات اراض مهملة غطتها خضرة الطرطيع اليانعة  تكاد تلامس الافق الشرقي نبتت دون حرث او سقي  تخزن في جوفها الملح والماء تعافها حتى الابل عالية بعلو قامة رجل شقت التربة بعناد غير ابهة بحرارة الشمس التي لا ترحم وجفاف الارض السبخة   .

- شيخ سعد هل هناك من

وقبل ان يكمل صاح صلاح وكأنه يفرغ شحنة من الالم

- نعم  ارجوك . وصلت شكرا

ابطأت الحافلة  وتركت الاسفلت لتتجه صوب مطعم الطريق وتحشر نفسها بين المركبات التي وقفت قبالة المطعم  حيث اسرع يشق طريقه محاولا اجتياز ما تكدس من حقائب في الممر تاركا مكانه وعند نزوله غطس حذائه    في تراب ناعم   وسار لمسافة قصيرة حيث بدأ الالم في ساقيه  ووركه يزول تدريجيا وقف يتمعن ذلك المكان كان الوقت منتصف النهار و اشعة شمس  نهاية اب القاسية انصبت من السماء تزداد ضراوة مع مرور الوقت حيث شحبت السماء وشحب معها وجه الارض سار ومع سيره ارتفع الغبار يغطي حذاؤه ومن خلفه انطلقت  حافلة لا تختلف عن التي اقلته الى هذا المكان واثارت خلفها غبارا ارتفع اعلى منه وخلفت وراؤها سحبا استغرقت وقتا لتعود الى مهدها وبعدها هبت  سموم تحملها رياح تنفخ لهيب الشمس في تراب الطريق  وتصفع شجرة السدر الهرمة العطشة الوحيدة القريبة منه حيث سمع خرخشة الاوراق الجافة التي بدا قسم منها بالتساقط وخلفت هذه السموم  دوامة صغيرة من الاتربة سرعان ما توسعت مبتعدة حاملة معها ما تلاقيه في طريقها من اكياس النايلون واوراق  لتصعد الى عنان السماء ثم تختفي

اقترب من شجرة سدر هرمة يلوذ بظلالها من لسعة شعاع شمس الظهيرة   تنتصب امام  كشك صغير جدرانه من اللبن وسقفه من السعف   جلس في جوفه شيخ . وسط علب السكائر والبسكويت وانواع مختلفة من الحلوى والعلكة رصت على الرفوف وعرضت امامه  وتحت ظلال الشجرة  امام الكشك حوض استحمام امتلأ بقناني المشروبات الغازية رقد فوقها قالب ثلج ذاب اكثر من نصفه.

اقترب من صاحب الكشك وأشترى علبة سكائر وتناول قنينة كولا اطفأ بها ظمأه وبادره بالسؤال

- بالله عليك اين المدينة

- تقصد ناحية شيخ سعد

- رحم الله والديك

صمت الرجل لفترة ونظر اليه وهو يمسح بذيل الكوفية ما علق من عرق وغبار بجبهته ووجهه المتغضن الذي حفرت عليه السنين تجاعيد عميقة وأشار بيده التي بدت على جلدها اليابس  والذي تعرض لعوامل التعرية لسنين من العمل الشاق في ارض لم تتعاون معه عروق نافرة شديدة الزرقة مطعونة بلونها  نحو طريق ترابي الى يساره وهو يقول بصوت من يعاني من ازمة ربو مزمنة

-  نهاية الطريق عبر النهر خلف الاشجار 

نظر صلاح الى ذلك الطريق حيث بالكاد يرى نهايته وعاد ليسأل

-الا توجد سيارة تصل  الى هناك وكيف اعبر النهر

-لاتوجد سيارة في مثل هذا الوقت ويمكنك عبور النهر بالعبارة حيث تعمل من السادسة صباحا وحتى الثامنة مساءا

-  جزيل الشكر و أستودعك الله

وقف للحظة و تأبط حقيبته الصغيرة وتأ مل الطريق الترابي الذي يتراقص ساطعا وقد امتد طويلا وبلل يديه ووجهه بالماء البارد وأستأنف السير وبعد مرور اكثر من نصف ساعة شعر بان الجو اصبح لطيفا منعشا بالرغم من حرارة  الاشعة الساطعة التي تغشي الابصار عندها تيقن انه يقترب من النهر الذي ظهر فجأة

وجد نفسه أمام دجلة الساعي الى البحر من غير تؤدة  تنفس الصعداء وانتابه احساس بالالفة وغمرته فرحة وهو يهبط حيث الضفاف الرملية الناعمة الرطبة الباردة خلع حذائه وجواربه وكف بنطاله وغطست  اقدامه بماء بارد وغرف بيديه ثم غسل وجهه وعنقه حيث ازال ماعلق من عرق وغبار وجلس يرتاح عند كتل اسمنتية تحت ظلال شجرة  هرمة من الغرب وعند اقدامه تتراقص مويجات صغيرة باردة تغطي اصابع قدميه ثم تتركها انتابه شعور بالبهجة حيث نسمات باردة تتسلل الى وجهه ومن البعد شاهد الضفة الاخرى وتناهى الى سمعه زئير المحرك حيث العبارة تستدير ببطىء قادمة نحوه مخلفة وراءها فوران الماء وامواج متلاطمة سرعان ما تختفي لينساب النهر بهدوء كما هي عادته منذ الازل.

اقتربت منه تلك الكتلة الحديدية الهرمة تشق عباب النهر بسطحها المربع المؤطر بأنابيب بسمك ذراع ومساحة للركاب والعربات لا تتعدى  الخمسون مترا مربع جوانبها الامامية والخلفية زودت  ببوابات تغلق عند سيرها والى جانبها الايمن ارتفعت كابينة القيادة يتوسطها قبطان يتحكم في قيادتها وارساء ابوابها عند وقوفها وعند المرسى الصغير والذي رصت عليه كتل اسمنتية فتحت البوابة واتكأت على هذه الكتل لم يكن هناك احد غيره. صعد يتلفت يمنة ويسرة واسترعى انتباهه رجل في العقد السادس من عمره  في العبارة جاء معها ولم يشأ ان يغادرها احتمى من لهيب الشمس بظلال الكابينة ارتدى بدلة بنية عتيقة وقميص باهت لا يكاد  يحتفظ بشيء من بياضه  فاستحال كالحا بلون التراب مع ربطة عنق خضراء بمربعات صغيرة سوداء مر عليها المكوى مئات المرات

 هزيل شديد السمرة  مائل الى القصر غزا الشيب رأسه ولم يبقي مكان لشعرة سوداء ومن خلف العدسات السميكة عينين كليلتين ضاقتا حتى كادت ان تغلقا وهو يتامل المدى النهري امامه

وقد ولى  وجهه  النهر و ظهر بوضوح انفه المعقوف كانف الصقراسفله شارب كث ابيض غزير لم يعتني به.

بالرغم من نظرات صلاح الفضولية انشغل ذلك الشخص بما لديه ولم يعره اهتماما وكذلك قائد العبارة الذي كان يوجه المقود  غير  مكترث بمن حوله....

اثناء العبور لاحظ صلاح امرا اثار استغرابه حيث اخرج ذلك الرجل النحيل ابيض الشعر قنينة بما يسمى ربعية عرق من جيب سترته ورشف سريعا مرتان الواحدة تلو الاخرى وبعدها زم شفتيه و اغمض عينيه بقوة للحظة ثم عاد وخبأها حيث كانت تبعها بقطعة صغيرة صفراء تبين انها جبنة الكرافت وقضمها ليزيل حدة ما شربه واستغرق في مشاهدة ما امامه وهو يولع سيكارته ويرمي بعود الثقاب الى النهر سحب نفسا عميقا ونفث الدخان واستند بكوعه على السياج يتامل جريان الماء دون ان يلتفت ويرد النظرات بالنظرات لهذا المتطفل الذي سرعان ما   تركه  وشأنه وشخص صلاح  بصره الى الكتل الاسمنتية التي تركها خلفه صاعدا الى  العبارة والتي بدأت تصغر وتتوضح معالمها كلما ابتعد عنها  بدت وكأنها تشبه تلك الكتل التي تكدست عند الجزء الجنوبي لمراب النهضة بالقرب من السياج المحاذي لمحلة الكوازة و التي شاهدها صباح هذا اليوم عند  مغادرته بغداد ولم تختلف عنها سوى بما ظهر على البعض  من شواهد  نقشت  عليها كتابات باللغة العبرية  وبلون اسود على مرمرة بيضاء ناصعة هي كل ما تبقى لمقبرة اليهود والتي ما زالت عظام الموتى متناثرة بينها.

حيث ازيحت في عهد الزعيم ليحل ذلك الكراج مكانها ثم يشق طريق الى العقاري فشارع فلسطين ثم قناة الجيش لينتهي عند مدينة الثورة واستغرق في ذكرياته حين كان طالبا في مدرسة ابن الجوزي عندما بدأت الجرافات تعمل دون كلل او ملل مواصلة الليل بالنهار وكيف انهار بفعل كيلتها الحديدية الهائلة ذلك القبر العملاق الذي كان يتسلقه مع اقرانه من صغار الكولات والطاطران لمشاهدة مباراة كرة القدم حيث يطل على ساحة ترابية وكيف اندفع سكان الميزرة الى داخل القبر بعد ان تهدمت جدرانه  لسرقة  قلائد الخرز الملون والتي علقت في رقاب الموتى ثم خرجو وقد انتابهم الفزع  يتراكضون بصطدم الواحد بالاخر وقد تعالى الصراخ بعد ان اصابهم الهلع وانتابهم الخوف حين ازاحو الكفن عن وجه وجسد فتاة  فائقة الجمال في العشرين من عمرها راقدة بملابس عروس بثت الرعب في قلوبهم وكأنها دفنت للتو وعند الغروب جاء بعض الاشخاص  ليدفنونها في مكان مجهول

وبعد ان مضت عدة اعوام  ما زال يتذكر اليوم الاول بداية العام الدراسي في متوسطة الكفاح وبالقرب من سياج فرن الصمون الرسمي في ساحة النهضة حيث تعالى صراخ طلبة المتوسطة وهم يتقاذفون بأقدامهم الجماجم عندها ظهر  مدرس العربية الاستاذ صادق الدبوني حيث جمعهم في ساحة المدرسة وخطب خطبته العصماء والتي اثارت الكثير من اللغط وحامت حوله الشبهات عن مناصرة بني اسرائيل والدفاع عن موتاهم وكاد ان يتعرض لاعتداء من الاتحاد الوطني لطلبة العراق في المتوسطة وهو الشيخ الجليل استاذ اللغة العربية والذي كان يعطي مستوى نجاح يقارب المائة بالمائة في الامتحانات العامة ورغم ما حدث من لغط لم يعد احد يمارس تلك اللعبة المرعبة بعد ان منعهم  عن فعل ذلك حيث ما زال يذكر كلماته

- استباحة حرمة الاموات نذير شؤم هؤلاء الكثير منهم ناله الفرهود سلبت اموالهم واستبيحت اعراضهم وسلخ من بقى منهم عن وطن عاشو فيه الاف السنين عبر مؤامرة بين بعض السياسيين  وعصابات صهيونية قدمت سرا الى العراق ليساهمو في اثارة البغضاء ويغضو الطرف عن  الغوغاء خلف السدة ويحدث الفرهود ويجبرونهم على الرحيل ولم يبقى سوى افراد لائذين بالصمت دفعو بفتياتهم للزواج من مسلمين لا لشيء سوى البقاء في ارض الاجداد والموت فيها وهم فعلا على يقين بان الاخرين لا يتركونهم وشانهم

هكذا رددها استاذ صادق الدبوني وبعدها بدأ  بعض الطلاب بجمع ما يجدوه من عظام وجماجم ويدفنونها  في مقابر جماعية في الارض التي اصبحت فيما بعد حديقة المدرسة اما الاستاذ صدرت الاوامر بنقله الى الاعدادية المركزيه تلك الاعدادية التي لا ينتمي الى كادرها الا الاساتذة المتفوقين على اقرانهم من بقية .المدارس في بغداد والتي ترفد كل عام المئات الى كلية الطب والهندسة في بغداد

انتبه صلاح الى صوت المحرك وهو يزأر معلنا اقتراب العبارة من الضفة الاخرى وعند مغادرته صعد سلم خرساني ينتهي عند الشارع المحاذي للنهر

حيث الرصيف الذي فقد الكثير من بلاطه يمتد مسافة كيلومتر مع الشارع من بداية الناحية وحتى نهايتها مع صف طويل لاشجار الكالبتوس العملاقة والتي تطفي على المكان ظلال رائعة تحول السموم الحارة الى نسيم بارد لقربها من  النهر  ولا يفصلها عن كتفه  الكونكريتي سوى سياج يرتفع لنصف متر مع خمس فتحات لسلالم  تهبط لعشرة امتارفتصل الى مياه الشاطىء التي ترتفع لتغطي نصفها في بداية فصل الصيف روعي في تلك المقتربات بناءها لتروي بشكلها الانيق حكاية عن زمن التواجد البريطاني بداية هذا القرن وقف صلاح يتأمل ذلك المنظر الجميل والتواء النهر القادم من الشمال ليمر بمحاذاة  هذه المدينة التي بنت نفسها وهي تولي ظهرها النهر المتجه جنوبا  حيث يستدير عند نهاية البلدة الى علي الغربي ليختفي عند المقبرةالتي تجاور  غابات  الصفصاف التي تمتد بعض سيقانها منحنية الى دجلة وكأنها ترتوي من مائه.

وسط ظلال الكالبتوس وماء النهر وقفت العبارة واطفأ المحرك وكأنها تلتقط انفاسها لفترة بأنتظار القادميين من الجانبين حيث لا يوجد جنس مخلوق في تلك الظهيرة  سوى سائق العبارة وهذا الرجل الضئيل ابيض الرأس وقد اضفت اغصان تلك الاشجار العملاقة المعمرة ظلال وارفة وطاب لصلاح الجلوس لدقائق  على السياج الذي كان عبارة عن مقعد خرساني يمتد بامتداد الطريق المحاذي للنهر  ومن عتمة الظلال الكثيفة وخلف الجذوع الضخمة حيث الممرات التي صفت بالفرشي وسط اعشاب برية نمت وارتفعت مغطية الثيل دون اهتمام او تشذيب لتنتهي بأبنية من طابق ارضي علقت فوق ابوابها قطع لم يتمكن من قراءتها واعلام  الجمهورية فوق سطوحها لقطع بالية ترفرف ثم تعود ساكنة توحي بأنها دوائر رسمية تزاول عملها من خلال بعض رجال الامن وعمال الخدمة الجالسين او الواقفين عند ابوابها.

نهض بعدما استرد انفاسه واتجه نحوهم عله يحظي بجواب الى ما سيسأل عنه سار في ممرات الظلال اقترب من احد. الابنية  قرا  ما خط على احد اليافطات وقد كتب عليها ناحية شيخ سعد دائرة البلدية القى التحية على احد الجالسين وقد بدا من مظهره انه يعمل في تلك الدائرة

-السلام عليكم

اجابه

- وعليكم السلام

-عذرا اين المستوصف

نهض ذلك الرجل واشار بيده وهو يلتفت الى صلاح ثم يعود ببصره الى حيث يشير

-عند ذلك الشارع الذي ينتهي بالكورنيش الى اليمين رابع بناية بيضاء على اليسار حيث يرفرف على سطحها علم ابيض يتوسطه هلال احمر

-  شكرا جزيلا ورحم الله والديك

- انا بالخدمة ارجو المعذرة لولا ضرورة تواجدي  لسرت معك الى حيث تريد

- لاباس المكان قريب واستطيع الوصول اليه بسهولة

و دفع الفضول ذلك الرجل ليساله قبل ان يستانف سيره 

- موظف .

-نعم مدرس في ثانوية البلدة

.- اهلا وسهلا انك وسط اهلك وهذه البلدة هادئة وسرعان ما تتعود عليها

قالها وترك صلاح يحث الخطى متسائلا مع نفسه .. هل يحالفني الحظ لاراه ؟ والا ساقضي ليلتي بلا سقف وسرير.

سار بموازاة النهر وعند نهاية الشارع استدار الى طريق هجره الكثير من الاسفلت و منذ سنين ولم يبقى منه سوى ما يحاذي الرصيف  و بعض الاثر ما بين حفرا مليئة بالحصى والتراب وعلى  يمينه اصطفت  اسيجة من الطابوق عاليه تجاوز ارتفاعها الثلاث امتار مستقيمة بدأت الشقوق تنال منها تخبأ خلفها اشجار البرتقال والزيتون والسدر  اكتضت باغصانها المكسوة بالغباروتدلت  عبر السياج يظللها  النخيل وقد نالها الاهمال وخلفها بيوت  بدت وكانها مهجورة ما زالت انيقة  ترتفع عالية تميزت  بالكثير من الجمال و الرقة و الاناقة لزمن اسرف عليها من شيدها  وتركت اثرا  لحياة راقية  مفعمة بالحيوية غير انها تحولت الى اطلال لم يتمكن منها الخراب بفعل مجهول ساكنة  يسودها صمت  مريب كانما هجرها اهلها منذ زمن بعيد يقابلها دور ثلاث صغيرة متشابهة بنيت حديثا يجاورها البناء الرابع وقد اعتلته  سارية انتهت بخرقة باليه كالحة صدأ بياضها بفعل الغبار يتوسطها هلال احمر رفرف بقوة  اثر السموم اللافحة التي هبت للتو

عند الباب الحديدية للسياج وقف  امام يافطة كتب عليها المركز الصحي لناحية شيخ سعد اجتاز الممر الذي يتوسط بقعتين صغيرتين تصلدت تربتهما حيث اختفت النجيلة ولم يبقى  منها سوى بقع من عشب  يابس اصفر مغبر وعند السياج كانت هناك شجرة رارنج تيبست اغصانها فاستحال بعضها الى اللون الاسود وفقدت اغلب اوراقها ولم يبقى سوى بعضها صدأ يحتضر

اجتاز المدخل حيث لفت انتباهه مجموعة نساء تلفعن بالسواد ظهر الاجهاد وسوء التغذية على وجوههن  فاستحالت الخدود المتجعدة الى سمار مصفر افترشن البلاط ينتظرن دورهن في المعاينة احتضنت احداهن وليدها  وقد نال منه المرض فبدا هزيلا بشكل يثير الانتباه شبه عار برأس صغيرة وشعر كثيف دبق يتسلى الذباب على وجهه وجلده الطري  ويكاد يلامس السوائل التي تخرج من  فمه وانفه بكى  بوهن من الم مكبوت  وحرك يديه بعصبية   ليزيح يد امه عنه  حتى اختنق في بكائه وكادت ان تنفر من جبهته وعنقه العروق

عند باب العيادة حيث  علقت يافطة صغيرة من خشب الصاج   كتب عليها الطبيب جلس تحتها و على كرسي من الخيزران شاب في مقتبل العمر هزيل طويل اشقر بوجه شمعي ابيض شديد الشحوب  واسع الفم  يتنفس بصعوبة وكانه يعاني من مرض صدري له عينان زرقاء كالخرز يدور بهما الى كل اتجاه  ليراقب كل ما يدور من حوله ....... 

وقف صلاح يتلفت يمنة ويسرة مما اثار انتباه ذلك الشاب الذي وقفت على مقربه منه امراة في منتصف العقد الثالث تنتظر دورها صهباء جميلة بشكل يثير انتباه كل من ينظر اليها ولا يتمالك نفسه الا ان يطيل النظر اليها للوهلة الاولى منتصبة وقد لفت عباءتها حول جسد ممتلىء يثير الغرائز.

 التناسق الرائع الذي ظهر مع لفة العباءة حول ذلك الجسد وكانها تعمدت اظهار  تفاصيل مرتفعات ووديان الشهوة  بصدر عامر اعتلى خصر ضامر ومؤخرة مكتنزة توجت السيقان ...فانتصبت قامة متوسطة  بزنود ممتلئة انتهت بكف  زين باصابع جميلة  نفرت خصلة  من شعرها  الاحمر و فرت من العباءة حيث ارتمت على جبهة بيضاء ناصعة واسعة تعلوعيون زرقاء اليفة  خط اسفلها انف مستدق توسط وجه مفعم بالنظارة غزا وجنتيه نمش بالكاد يظهر وكانها تمثال لالهة اغريقية بثت فيها الحياة فتحركت شفتاها الممتلئة بلون الكرز التي تعلو الفك الصغير وكانها خلقت جميلة حبا بالجمال ولكن شيطانها  جعلها مغرية  اطال النظر اليها مما استرعى انتباهها  و استدرجها   من شرودها حيث اثار فضولها لمعرفة القادم الجديد وهي ترمقه بنظرة تتامله بعيون لا تخلو من الاثارة والاستنكار . تحاول سبر اغواره تكلمت دون ان تتفوه بحرف واحد وكان ينصت الى عينيها غير انه غض البصرمبتسما فبادلته بمثلها مما اثار حفيظة ذلك الشاب فنهض من مكانه  وتقدم نحوه  بتوجس و حذر  مرددا

 - تفضل بماذا استطيع ان اخدمك

- عفوا اين المختبر

- وما الذي تريده من المختبر 

- ابحث عن  كوركيس قيل لي انه يعمل في المختبر

- ماذا

- كوركيس

اشاربيده للباب المشرعة الى يمينه

- تجده في الصيدلية 

 .اتجه نحو الصيدلية كانت غرفة مشتركة بباب واحد تتصدرهاعند الدخول الصيدلية  بمساحة تحتل ثلثي الغرفة وخلف مجموعة من الدواليب الحديدية يقبع الثلث وقد خصص  للمختبر

وعند وصوله الباب كانت هناك طاولة خشبية امتدت  ثم انحرفت . نحو الجدار بزاوية قائمة اكتظت  بالحبوب والكبسول وبعض القناني الصغيرة لانواع مختلفة من الشرابات  حيث وقف شاب وسيم يميل الى القصر  قوي البنية في العقد الثاني من عمره شديد السمرة بشعر فاحم لماع مسترسل الى الوراء وعيون تتقدمها عدسات سميكة رمادية ووجه متسامح نبيل

تقدم صلاح والقى التحية وردها الشاب بالمثل

- صلاح مدرس الاحياء تم تنسيبي للعمل في الثانوية وصلت للتو من بغداد لدي موعد مع كوركيس

رد بصوت جهوري

اهلا بك اخ صلاح تفضل

ازاح بيده الجزء الجانبي من الطاولة  ليتمكن صلاح من الدخول ودخل  وسط حفاوة ابداها ابراهيم بقدومه مرددا 

- انا ابراهيم اعمل  في  الصيدلية تفضل بالجلوس

واشار بيده الى كرسي ثم تابع

- خلف هذا الحاجز من الدواليب الحديدية غرفة المختبر

وقبل ان يكمل حديثه ظهر كوركيس بقامته الطويلة وكتفه العريض وسحنته الحمراء وعيونه الشديدة الزرقة وبقايا شعر بالكاد غطى صلع بدا يغزو راسه و صاح  تملا وجهه ابتسامة ترحب بالقادم

-اخيرا وصلت كنت انتظر قدومك ما سبب تاخرك الى الواحدة ظهرا؟ .

التفت صلاح الى مصدر الصوت ونهض مرددا

- كوركيس .الحمد لله . .... كنت اخشى ان لا اجدك لم اكن اتوقع في يوم من الايام ان نلتقي في مثل مكان كهذا . . .

- . انها ضريبة ايام اللهو و الدرجات البائسة التي جعلتنا في اخر القائمة  ومغادرة بغداد بعد ان تركناها لابناء المحافظات المتفوقين بما نالو من درجات والطامعين بالبقاء فيها.

- الجميع يسأل عنك وانت مختبا هنا

- كيف هي الاحوال مضى اكثر من شهر لم التقي باحد من الجماعة

-  لم اعد ارى سوى جبار واياد 

- جبار   ما زال يصدح باغاني فريد

- لم نعد نسمع منه اغاني فريد تحول الى المقام مع  كلمات تخدش الحياء ليوسف عمر واضاف لها الكثير من الادب المكشوف لملا عبود ولا تفتح قريحته الا بعد ان يعبىء في جوفه اربعة  قناني فريدة ... تعلم العود  و درس النوتة يسرق الكثير من الالحان  ينسبها  لنفسه واذا ما اعترض اياد وفضح امره بسماع هذا اللحن سابقا علا صراخه وبدات الشتائم تنهال وانتهت الجلسة لتعود مرة اخرى بعد بذل الجهود للمصالحة ثم يعود اياد مرة اخرى ملمحا وهامسا في اذني وعيون عزيز ترصده ويتهيأ للانقضاض

انفجر كوركيس ضاحكا  ثم نظر الى صلاح باستنكار معاتبا

- لولا قدومك الى هنا لما سمعت صوتك عبر التلفون قبل اسبوع

- اقسم لك    مررت بالبتاويين اكثر من مرة وفي كل مرة لا ارى غير الابواب الموصدة لاسواق الوالد سالت من في الجوار قالو لي انه  سافر الى بعشيقة واغلق المحلات علاوة على ذلك مررت بالدار سالت عنك قالو لي  انك تعمل خارج بغداد ولا اعرف الشخص الذي

اخبرني بذلك ..عدة مرات يرن الهاتف ولا من مجيب

-الصدفة لعبت دورها لارفع السماعة مررت بالدار لنصف ساعة وكنت محظوظا عند ردي عليك قبل اسبوع على ما اعتقد

- بالضبط

-كيف هي الاحوال تلتقي بالجماعة

-لم يبقى سوى جبار واياد .

 كما تعلم  سافر عزيز الى الدنمارك منذ ستة اشهر ولا نية له بالعودة بعد تصفية املاكه

-من كان يتصور عزيز ابن اليهودية في الدنمارك .

- التحق باخواله ليس حبا بما يؤمنو به انت تعرفه انه وغد بكل ما تعنيه الكلمة يهزأ من كل شيء ولا يابه باي فكر وكل همه هو اغواء المراهقات بوسامته.... بلسانه المعسول واناقته وما ترك له والده من ثروة هو ليس زير بل بئر نساء كتب لي رسالة يخبرني فيها بهوايته في اصطياد الاناث بعلاقات عابرة في ملاهي كوبنهاغن .يراسلني ووجه لي دعوة بزيارته ليريني اوربا دون الاستمناء الذهني الذي استغرقه في القصص السخيفة التي اصرف ساعات في قراءتها ذكرني بما كان يدور اثناء احتدام النقاش وما اردده  بان الفقر مزرعة تنبت عاهرات ودحض كلامي بما يراه كل يوم من حسان  مترفات يتعرفن عليه . لديه شقته وفيها لوحة الشرف السرية المليئة بصور من تعرف عليهن ويود ان يتخطى حاجز الالف من شقراوات و سمراوات و صهباوات لم يكتفي بالاوربيات بل مد نفوذه الى الاسيويات والافريقيات  وكتب لي بانه يهزأ من المخدع السري في الشقة البائسة مقابل سينما اطلس و التي كان يشارككم فيها بانتظار بائعات الهوى ذوات الروائح النتنة حيث يضفن العطر الرخيص الى اجسادهن المنهكة  في لظى الصيف ليزداد الامرسوءا. بشقائهن وبؤسهن ينتظرن ما يهب اللئام  لاطفاء شهوتهم مقابل دينارين وبعضهن يدفعن حياتهن ثمنا لذلك  بعد ان تخلى  الاهل والسلطة ليندفع  احد الحمقى لينال من حياتهن دفاعا عن الشرف ولم يفكر هذا الوغد في يوم من الايام بمد يد العون لهن بعد ان عنسن او ترملن او طلقن...وتسائل بخبثه المعهود هل ما زلن حفيدات المعابد البابلية   يمارسن الدعارة من اجل العبادة كما كن يفعلن جداتي اليهوديات في زمن القائد الضرورة المهيب نبوخذ ام سد رمقهن ورمق اطفالهن المتضورين جوعا...ثم  يهزأ من حماقة ورعونة شهريار الطاغية وكذب شهزاد المغلوب على امرها ويعتبر ان ما يقوم به في تلك الاصقاع الباردة واجب اخلاقي من خلال  تلك العلاقات العابرة في المطاعم والمقاهي لاطفاء ظمأ الراغبات في ذلك بحرية كفلها الدستور ليسخر امثاله القادمين مع ذخيرة لا تنضب من الحيوانات المنوية انضجتها شمس الصحاري واعطتها قوة خارقة وانتصاب يحلمن به ....يركع ساجدا امام افخاذهن المرفوعة وهن مستلقيات على فراش وفير وكأنهن اميرات ثم ما يلبثن ان يشعرن بالضجر بعد ايام من الرضا ليبحثن عن شخص اخر

- تقصد..... لا .... يالله هذا الوغد كم مرة سمعته يلمح الى ذلك ولكني لم اكن اتصور ان يفعلها هذا الزنديق

ساد الصمت لفترة ثم ردد صلاح

-  وانت الم تفكر بالهجرة محلات الوالد اغلقت والبيت لايتواجد فيه سوى والدتك واختك في امريكا

-  ها أنذا امامك ولم احسم امري بعد وامامي الكثير مما يجب ان اعمله

- حسنا وبعد ذلك

      ثم تابع صلاح هازئا

- يبدو ان جرذان الاقليات بدأت تترك سفينة الوطن

ابتسم كوركيس واردف قائلا

- بعدما ان ايقنو ان من فيها  لا يصلحو لقيادتها ولا يهمهم امرها لامن قريب و لا من بعيد وهم ليسو سوى جهلة صغار ازاحو كبار الفجار ليكبرو عبر نعيق المنافقين ويصبحو خلال اعوام من ثوار الى  ....اثرياء ينعمون بالجاه و السلطة جاؤو بانقلابات  يغامرون برعونة ولا يأبهو لما ال اليه الامر اهترات الاخشاب وتمزقت الاشرعة وفقدت البوصلة ونكاد ان نفقد الدفة

- ولكن يوجد اصحاب الضمائر

- هؤلاء مغلوب على امرهم صامتين خوفا و بصمتهم ازداد نعيق المستبد ولا تنسى الازدراء بصمت غير كاف واضعف الايمان لا يحصن الانسان  

وقبل ان يخرج كوكيس دخل د خليل طبيب المركز ونظر الى صلاح من خلال عينين بنيتين مدورتين  كعينا البومة  حيث بدا . .  قصيرا بشكل يلفت الانتباه اندفع قفصه الصدري  قليلا الى الامام وشكل تلة صغيرة وبالكاد برزت حدبة خلفه واسترسل شعر راسه الاشقر الى الامام فغطى نصف جبهته فظهر بوجه نابليوني ونظر الى كوركيس وعين تتسائل دون ان يتكلم عن القادم عندها اشار كوركيس الى صلاح

 - صلاح مدرس الاحياءالجديد والقادم من بغداد

- تقصد . خريج هذه السنة .  

- كلا مضى على تخرجي اكثر من عام

- اهلا وسهلا

 عندها تركهم عائدا الى عيادته بعد ذلك

خرج كوركيس واختفى لاكثر من ساعة وعند خروجه كانت الساعة قد جاوزت الواحدة والنصف ظهرا اصبح الممر خاليا من المراجعين والشخص الذي شاهده عند دخوله.... ومن الصيدليه ارشده ابراهيم الى المختبر الذي يقبع خلف الدواليب الحديدية حيث وقف ينظر الى الميكرسكوب والسنتر فيوج وجهاز ساهلي والاي اس ار والشرائح الزجاجية وقناني كبيرة مليئة بالمحاليل ثم جهاز التعقيم وجلس مقابل الميكرسكوب وفحص شريحة تعداد الكريات البيضاء التي كانت ما تزال تحت العدسة

نهض وراى ابراهيم يراقبه

- انها اجهزة تفي بالغرض اعتقد ان كوركيس هو الذي جمعها

-بالضبط جاء بها من حوالي  اربعة اشهر على شكل وجبات مجموعة تلو الاخرى كان حريصا على اختيار الافضل

- اعرف كوركيس وحرصه على الاتقان

-من خلال حديثكما يبدو انك تعرفه منذ زمن طويل

- اكثر من عشر سنوات حيث كنا في متوسطة الكفاح  وقبل انتقال اهلي الى المشتل كنت في باب الشيخ وكان في كمب الارمن حيث انتقل هو الاخر الى البتاويين وكثيرا ما لعبنا كرة القدم في ساحة مقبرة الغزالي المجاورة  لكمب الارمن حيث نتسلل اليها من خلال فتحة في السياج وعلى تلة اصطفت جماهير الموتى قابعة في القبور لا تبالي بما نفعل

وفي تلك اللحظة دخل كوركيس حيث صاح وهو يضحك وكانه سمع نهاية الحديث

 اشار صلاح بحذر وهو يختلس نظرة الى ابراهيم الذي بدا منشغلا بصرف الدواء الى احد المرضى غير ان كوركيس عقب بدوره

-لاعليك اطمأن هو ليس منهم ولا منا  نصحته بأن لا يتمادى بأيمانه ويكتفي بسجادته وتربته ويبتعد عن اللطم والمواكب التي تنال من السلطان ولكنه يصر احيانا على  حضور مراسيم تغيض النظام اخشى ان القادم من الايام سيقضم امثاله اذا لم يتعض

قالها كوركيس وفي يده جهاز لقياس الكلور وقد تهيا للخروج

التفت ابراهيم اليهم ثم تابع موجها كلامه الى صلاح قائلا 

.- مدير المدرسة استاذ محمد اعرفه تربطني به علاقة  وطيدة متى ما شئت ارافقك  لاوصيه بك

التفت كوركيس وهو يهم بالخروج

- صديقه الحميم وخصمه العنيد في  النرد بمقهى فرهاد وغالبا ما تنتهي المباراة بخسارته امام استاذ محمد الذي تعود ان يهمس في النرد ليلبي طلبه قبل ان يرميه

.

.

 

 

- كان يلعب بخشونة في مركز الدفاع  وكنت اتحاشى الاحتكاك به بعدما جربت مرة وكلفني ذلك سجحات ادمت ركبتي

- مازلت تتذكر

- وكيف انسى بعد معركة بين الفريقين بسبب ذلك

.

 نظر الى ساعته وتابع

- قاربت الساعة الثالثة  ما رأيكم بالمغادرة 

وخرج الثلاث يجتازو ذلك الطريق القفر وكانها مدينة لايسكنها سوى  ثلاثتهم مما اثار استغراب صلاح وسأل بعد مسير لاكثر من خمس دقائق

- قل لي بربك مالذي حدث في هذه البلدة هل تعرضت لاشعاع نووي مضى علينا اكثر من خمس دقائق نسير في هذه الظهيرة القائضة ولم نصادف حتى كلب او قطة هل هي مدينة اشباح .......دوائر لموظفين دون مواطنين

همس ابراهيم وكانه يكلم نفسه

- بل تعرضت الى اسوأ من ذلك

التفت صلاح متسائلا

- ماذا اخبروني بالله عليكم ما الذي حدث وجعل البلدة على هذا الحال

عندها ردد كوركيس

- التهجير يا صديقي التهجير

- التهجير تقصد التبعية

- التبعية مفردة يمكن اطلاقها من فم تافه متملق من وعاظ السلاطين  لتشعل حرب لقرون .... القومية او النازية التي ابتلينا بها سمها ما شئت تدفع بكل من لديه لغة اخرى او مذهب  اما الى كهوف الجبال او عبر التلال الى هضبة فارس مهجرا ومن يدري ربما ستنقلب الامور يوما ما

- تريد ان تقول لي ان جميع اهالي البلدة  شملتهم حملة التهجير

- ليس جميعهم ولكن اكثر من نصفهم والباقين فرو والقليل منهم ينتظرون  مختبئين في مخادعهم يعيشون مرارة الخوف  فارقتهم  البهجة وبعض الافراد ارتضو بان يكونو اذلاء ادلاء خانو بني جلدتهم وقضمو حلمات امهاتهم واصبحو سيوف مشرعة بيد النظام وهذا هو ديدن سكان وادي الرافدين قلوب خاشعة وعيون دامعة في السر وقساة لا يرحمو و في العلن يلعنو اقاربهم ويتقافزو هرجا ومرجا  بامر من الحاكم...... الامر ليس غريبا هكذا هو حال البلد منذ مئات السنين

وتابع ابراهيم

-بالرغم من وجودهم ابا عن جد في هذا المكان

عندها ابتسم صلاح وهو يردد

-حزب البعث لديه ثأر مع  الفيلية يمتد لاكثر من خمسة عشر عاما

 وقفو بوجه الانقلاب الثاني  وقاومو البعث وجيش عارف اكثر من شهر في ازقة الكفاح حيث يتواجدون دفاعا عن عبد الكريم . بعد14 تموز انضم معظمهم الى الحزب الشيوعي  وهذا ما دفعهم الى ان يكونو هدفا للانتقام .

وقف كوركيس ومعه ابراهيم فايقن صلاح انهم وصلو حيث يسكنون صعد كوركيس العتبة ومن بعده صاحباه ولم يكبد نفسه فتح الباب برفق بل اقتحمها بعنف راكلا اياها كقائد منتصر فاجأ صلاح هيبة وعلو ذلك البناء القديم وسعته بالرغم من  اطلال النافذتين الخشبيتين على الطريق من دون سياج او حديقة كانت بابه الخشبيه في يوم من الايام فخمه  صنعت من خشب الصاج حفرت عليها نقوش نباتية وهندسية تناغمت بشكل جميل فاضفت عليها نوع من الابهة وزودت بمطرقة نحاسية غاية في الجمال ثبتت في منتصف الجزء العلوي  منها غير ان هذه التحفة الخشبية الرائعة فقدت الطلاء ونالت منها الظروف المناخية القاسية من برد الشتاء وامطاره ثم لهيب شمس الصيف وسمومه   والاهمال لتترك دون طلاء لسنين مما ادى الى ان يفقع لون الخشب ويغبر ثم ارتخت القطع المتماسكة فيها غير انها ما زالت تقف كحارس عجوز وتتصدر ذلك البناء العتيق .عند دخولهم الممر الضيق  الذي لا يتجاوز الثلاث امتار تقابلت في منتصف المسافة بابين لغرفتين احدهما تواجه الاخرى وينتهي الممر بباحة واسعة يقابلها جدار الجيران الذي يزيد ارتفاعه  عن الخمسة امتار وسط الفناء ارتفعت نخلة ظللت بسعفها مساحة كبيرة من الباحة  و اكتضت بطلع نضيد واحيط بجذعها الجبار شتلات من الجوري والرازقي واطرت دائرة تربتها بطابوق اسند احداها فوق الاخرى  كما تصمم البيوت الشرقية القديمة على احد جانبيها غرفة تجاور الغرفة اليسرى للممر والجانب القصي مخزن اغلقت بابه باحكام وتراكمت فيه الكثير من الاثاث الخشبية المتضررة ويجاور المخزن حمام ومرافق انحشرا تحت سلم من الطابوق ينتهي بسطح  اطل  سور من الطابوق نقش باشكا ل  هندسية على شكل نجوم مثمنة  يطل على الطريق ويطل على الباحة سور لقضبان حديدية لا ينفذ منها راس طفل  تجاور احداها الاخرى ومحكمة من الاعلى و الاسفل باطار خشبي اما الباحة والغرف فرشت بالفرشي الكربلائي و بأسلوب يدل على مهارة فائقة في البناء كان سقف الغرفة من الشيلمان والطابوق بطريقة بناء  العكادة مكسوة بطبقة من الجص واخرى من البورك وطليت بلون تبني انشغل صلاح بمشاهدة هذا البناء الذي ايقظ فيه ذكريات عن بيت جده القديم في محلة الطاطران

- حقا انه بناء قديم وجميل بالرغم من الاهمال الذي نال منه ترى ماذا حل باصحابه واين هم الان

قالها صلاح وهو يتمعن سور السطح الذي يحيط بالباحة

- وجدناه خاليا من اهله  غير ان فرهاد اخبرنا بحكايته

ثم عقب كوركيس

- صاحبه ميرزة كان من اشهر تجار الحبوب في البلدة

- وماذا حل به

- . شملته حملة التهجير غير انهم تمكنو من عائلته ولم

. يتمكنو منه استطاع ان يتغلب عليهم بالرغم من شيخوخته

التفت صلاح مستغربا

- كيف  اثرت فضولي لسماع حكايته

- بكل بساطة واجههم و بالكاد وقف عند باب غرفته هذه يرتجف وقد بلغ  من العمر عتيا وتغلب على  الخوف مقاوما الاجهاد   في ذلك النهار البارد ومنعهم من دخول الدار ثم انهال بالشتائم  على مجموعة الرفاق وصفع  المسؤول عندما هم   بأزاحته عن طريقه واقتحام الدار ثم سقط جثة هامدة مختارا هزيمة بعد مقاومة كانت اكثر مجدا من الانتصار  فتركوه يلفظ انفاسه الاخيرة  ونالو من عائلته حيث اخرجوهم عنوة حفاة بملابس البيت ليكدسو كالمواشي  في سيارة شحن عسكرية ويرمو  في صحراء الشهابي ويامروهم بالسير شرقا في ليل قارس بهيم من ليالي الشتاء حيث الحدود وسط صوت الصقيع المتكسر تحت وطا  اقدامهم الطرية ومن البعد تتعالى صراخ ذئاب حمرين اما ميرزة بقي في الدار لا يجرأ احد على دفنه مطروحا عند الباب  لاكثر من عشرة ايام  من شهر كانون  انتفخت الجثة واصبحت رائحتها تزكم الانوف واقتفى اثرها ذباب الفطائس الذي انتشر في المدينة بشكل لا يطاق ولا يجرا احد على التفوه بكلمة ادفنوه حتى تجرا  الصبي الذي كان يعمل عنده و اسمه عبعوب والذي يعمل حاليا الزبال الوحيد في هذه البلدة من دفنه عند غابة الصفصاف جنوب البلدة مقابل عشرة دنانير  اعطاها له شخص ملثم  . مجهول لا احد يعرف من هو   

 

   ........الفصول الباقية تتبع

 

FOLLOW ME

  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • c-youtube
bottom of page